واقف على الطابور داخل العبارة اللي كانت بتنقلني من الجانب الاسباني الى المغرب من خلال مضيق جبل طارق, لاحظت سيدتين جدامي واقفين ومتحجبات قلت ادردش معاهم, منها اضيع وقت حتى يجي دوري ومنها احاول انسى دوار البحر اللي طلع لي فجأة اثناء هذه الرحلة القصيرة واللي بالعادة ماعندي اي مشكلة في دوار البحر. كنت في البداية أظن ان النساء هذول من الخليج ولكن تبين من ملامحهم انهم آسيويات ولما سألتهم قالوا لي انهم من ماليزيا وكانوا يقومون برحلة انحاء كل اوروبا ولكن قرروا يكملون الى المغرب ومنها الى موريتانيا ويمكن اذا حالفهم الحظ الى السنغال. بعدها تكلمنا عن السفر والترحال وامكانية التخييم لاضافة نوع من الاثارة والحماس وبعدها تكلمت معاهم عن معاناتي الدائمة مع التأشيرات خصوصا الدول اللي مافيها سفارات عندنا في قطرواحضرت مثال رحلتي (بين القطبين) اللي سويتها قبل سنة خصوصا مع تركمانستان. هي قالت لي انهم في ماليزيا ماعندهم اي مشكلة ابدا فيما يخص الفيزا بسبب ان جواز السفر الماليزي يعتبر من اقوى عشر جوازات في العالم, لهذا قالت لي كل مايسافرون بلد, يحاولون يمددون أكثر ويروحون بلدان مجاورة أكثر. كملنا سوالفنا حتى وصل دورهم واخذوا تذاكرهم وراحوا ومن حسن حظي نسيت دوار البحر ورحت تقهويت وانا اشوف البحر حتى بديت اشوف قارة افريقيا في الأفق تبين وقلت لنفسي: مرحبا بي في المغرب!

the blue city

النزول من العبارة كان سهل جدا وسريع حتى وصلنا الى نقطة الجوازات والجمارك ولكن المشكلة كانت ان نظام الجوازات وقتها كان متعطل والضابط منع اي اجراء لخروجنا الا بعد مايرجع السيستم! كانت معاناتي مقسمة بين اني احاول اقنع الضابط يمشينا بشكل يدوي لأن كدراجين لازم نوصل شفشاون قبل حلول الظلام وبين الدراجين اللي معاي واللي بدوا يتذمرون وينتقدون النظام العام في بلد بيروقراطية مافيها نظام (على قولهم). اضطريت اني اتدخل كوني العربي الوحيد وتكلمت مع موظفة الجمارك وضابط الجوازات ولما لاحظوا اني عربي دخلوني الغرفة معاهم وضيفوني بالقهوة وحبة موز. الضابط استغرب كوني قطري وقدرت اسافر بالرغم من الحصار وقتها؟ ماكان فاهم ان الحصار كان فقط بري وجزئيا بحري وجوي واني سافرت بالطيارة من قطر الى المانيا ومنها بالدراجة الى المغرب حتى وصلت عنده. كلنا كدراجين ومعظمهم بريطانيين كنا متحمسين لدخول المغرب وكان شعور جميل وغريب كوننا نسوق الدراجة من اوروبا حتى الوصول الى افريقيا وباين ان معظمنا مازار المغرب قبل, ماعدا رئيس الفريق دومينيك اللي دخلها قبل وايد. الليلة الاولى كنا منطلقين الى ماتسمى المدينة الزرقاء شفشاون واللي كأنها قطعة نجم معلقة في السماء.

في أحد المعابر في المغرب فوق السحاب

يوم بعد يوم من القيادة في مدن المغرب الرائعة وتذوق طعامها الاروع والتجوال بين جبال الاطلس والوديان الجميلة والجبال الشاهقة حتى الوصول الى بوابة الصحراء الكبرى من خلال ارفود ومرزوكة اللي مو بعاد من حدود الجزائر, حتى الوصول الى اكثر الايام صعوبة وتحدي وهي الوصول الى منطقة بومالن دادس من خلال طريق في شدة الوعورة بسبب كثرة الطرق الطينية وعبور بعض جداول المياة وخصوصا اني كنت في قمة لياقتي الذهنية والبدنية بعد شهور من التدريبات الرياضية والقيادة بالموتوكروس في الصحراء. الطريق هذا كان يتميز بجماله الفائق من الطرق المنحنية والمعابر والمناظر الساحرة, وكنت انا في قمة ثقتي اني رح العب في هذا الطريق بالدراجة بل اني كنت واثق اكثر من اللازم يومها. كنت العب بالدراجة يمين ويسار بلا مبالاه وكنت احاول اسوي حركات بهلوانية مالها اي داعي الا انها نوع من الثقة الزايدة, حتى وصلت الى منحنى حاد جدا غزير بالطين وفيه آثار اطارات غايصة في العمق وانا كنت احاول اطلع على اللفة قررت اوقف على الدراجة وهي ماشية علشان اشغل كاميرا القو برو! وللحظة أقل من الثانية عيني انشغلت عن الطريق وانحرفت الدراجة متجهة جهة الطين العميق وللحظة قصيرة جدا ماتذكر شنو صار الا شفت امام عيني زجاج متنثر يتطاير وصدري ضرب في شي وكنت طاير واشوف امامي واحد من صناديق الدراجة طاير جهتي! تميت على الارض لمدة عشرة ثواني مو مستوعب شنو صار معاي وماكنت حاس بأي شي غير دقات قلبي السريعة وكنت واثق اني مصاب في مكان ما بس مو متأكد وين بس الشي الأكيد ان اللي تكسر كان مانع الهواء البلاستيك ضرب في صدري.

احد الطرق الوعرة من ارفود الى بومالن دادس

كان هذا درس كبير عمري ماراح انساه اني عمري ما اكون واثق ثقة زايدة مهما كنت محترف وعندي امكانيات, خصوصا في مجالات خطرة مثل الدراجة النارية والقفز بالمظلة اللي ممكن اي خطأ صغير يكلفني حياتي! الحادث الصغير اللي تعرضت له يومها رخلني في مرحلة زعل وكآبة وستريس باقي اليوم كله وتضايقت لدرجة اني فقدت التركيز على الطريق باقي اليوم كله, كنت متمني اني انهي هذه الرحلة بدون اي حادث او حتى سقوط للدراجة حتى نهايتها ولكن للاسف صار الحادث مع صندوق طائر ومانع للهواء متفتت! كنت احاول اصلح الصندوق واثبته في الدراجة بدون اي امل لتصليحه حتى وصل بيتر وهو سائق الشاحنة المرافق لنا وصلحه بيتر باياديه السحرية بأن تم ربطه بالحبال حتى نهاية الرحلة! وقضيت باقي الأمسية اجري اتصالات مع عدة مدن مغربية منها الرباط والدار البيضاء احاول القى قطعة الويند سكرين المكسورة ولكن بدون جدوى, لدرجة اني كنت واقف على أجمل منظر غروب للوادي في بومالن دادس وماركزت فيه لأني على الموبايل اسوي اتصالاتي حتى ظلمت الدنيا علي وفاتني وقت العشاء, وبعدها قررت اروح احاول انام بدري مع اني ماكان فيني نوم فقلت اخذ دوش ساخن يمكن يرخيني وانام, بس تميت قاعد حتى نص الليل سهران مع الضيف الثقيل (البعوض)

مانع الهواء (الوند سكرين) اللي سبب لي كل هالكآبة

صحيت من نومي الساعة 3 الفجر وكانت الدنيا للحين ظلمة وليل واصلا ما أذن الفجر وقتها بس ماقدرت ارقد بسبب الألم الشديد اللي في صدري من الضربة اليوم اللي قبله, كنت احاول اتقلب واحس بالألم جهة صدري فقررت اقوم والبس واطلع, وانا ابدل ثيابي لاحظت بقعة بنفسجية كبيرة في وسط صدري تأكدت انها من الويند سكرين, وانا امشي في الظلام تذكرت ان اليوم اللي قبله فوتت اجمل منظر ممكن اشوفه في الرحلة كلها وهو منظر الغروب لذلك ماحبيت اضيع لحظة الشروق بعد, فتميت امشي في مكان مو بعيد من حافة الوادي, بالرغم انه كان بدري وايد حتى على الشروق بس طلعت اضيع وقت واتمشى في هدوء الظلام بس علشان ما افكر في حادث الأمس! ومع ذلك مشيت للدراجة وقعدت اصور الويند سكرين المكسور وقعدت افكر شلون راح أكمل الرحلة بهذه الطريقة بس بعدين تجاهلت الموضوع ومشيت للوادي الكبيروماكنت قادر اشوف اي شي غير ظلام شديد وبعض الانوار طالعة من بعض البيوت ومن بعض المساجد المتناثرة بين اشجار النخيل اللي مايبينون وبالعهم الظلام. كنت اشم ريحة حلوة توصلني فوق من خلال الأدخنة اللي طالعة من فوق البيوت وهذه الريحة خليط من خبز على بهارات بس الخليط مع منظر البيوت شكلوا لوحة رائعة بالرغم من الظلام. بعدها بشوي بدأ الاذان وبدأت اصوات مختلفة تصدح من مساجد مختلفة في قاع الوادي كلها مع بعض شكلوا صوت رائع اقشعريت له واندمجت بشكل كبير لدرجة اني استخسرت اطلع الجوال علشان اوثق اللحظة! وبعدها بشوي اقاموا الصلاة ومكبرات الصوت كلها كانت شغالة وأعطى جمالية اكثر للحالة واندماج اكبر وحتى انتهوا من الصلاة وكنت اظن ان هذا كل شي! ولكن بعد الصلاة كان الجزء الأجمل اطلاقا وهي ترديد الابتهالات والادعية من قبل المصلين والمكبرات كلها كانت شغالة وهنا لحظتها سمعت أجمل مقطوعة موسيقية ممكن اسمعها في حياتي وهنا ما اقصد التشبيه العبادة بالموسيقى بقدر ما اللحظة ساحرة وجميلة وتقشعر لها الارواح قبل الابدان! ظلوا يرددون الأدعية حتى خروج النهار ووقتها بدأت الوان الجبال المحيطة بالوادي تتحول الى اللون البرتقالي تدريجيا حتى اللون الأصفر وبدأت خضرة اشجار النخيل تشع شوي شوي وملامح الأكواخ توضح في وسطها وهني تأكدت ان فعلا اليوم اللي قبله فاتني شي كبير بسبب كآبتي وحزني ضيعت العشا والغروب عني! آخر شي سكرت عيوني وجلست اتأمل كل لحظة وكل ثانية من هذا الدقايق القليلة

اندماجي الشديد في الأدعية خلاني احس ان الامام جالس ورا اذني وهو يردد الدعاء والمصلين يرددون وراه بكل تفاني وعزوم عالية, وكأن ولا واحد من المصلين ترك المساجد بعد نهاية الصلاة وكنت مازلت مغمض عيوني واتتأمل في هذه الأدعية بكل خشوع!واستغليت هذه اللحظة بالدعاء لتيسير عملي ورحلتي واني اقدر اروح رحلتي القادمة (بين القطبين) اللي كان مقرر انها تبدأ بعد شهرين من يومها. تميت مسكر عيني بكل انسجام حتى قطع تأملي صوت واحد يغني بالانجليزي وحسيته وقف على يميني ووصلت معاه ريحة سجايرة! صبح علي بالالمانية وقالي: كيف حالك؟ رديت عليه اني عربي وافهم العربية! استغرب وقالي: بس اليوم اللي قبله شفتك مع المرأة الألمانية توقعتك سايح معاهم من المانيا! الله يبارك من وين؟ قلت له انا من قطر فضحك وقال: الله عندكم كل شي انتم, قلت له عندنا كل شي يمكن بس الكثير منا يفتقر للسعادة نفس اللي عندك والطاقة الايجابية على الصباح! ضحك وقال مابالك حزين يا أخي؟ بديت اشرح له الوضع واني بسبب تهوري وغبائي كنت رح أموت او تنتهي الرحلة وبذلك رحلتي القادمة بعد تروح علي, قرب مني ومسك ايدي ودقق في عيي بعمق وقال: بس ماتعورت صح؟ قلت اي, وسأل: بس مانتهت الرحلة صح؟ قلت صحيح! قال: اذا لاداعي للحزن يا أخي, انا تشوفني سعيد واضحك أمامك ولكني في الدار عندي اربعة ابناء معاقين لابد اني اوفر لهم قوتهم اليومي, وانا الوحيد اللي نخدم ونعمل وعندي هذا الطاكسي اللي اخذته عن طريق البنك نخدم بيه مع السياح الأجانب ولما نولي للدار اشوف السعادة في عيون اطفالي اني رجعت وفي ايدي شي لهم لذلك اقتنع وقول الحمدلله يا أخي.

النصيحة الصغيرة اللي عطاني اياها كانت بمثابة تنبيه وجرس لايقاضي من شي تافه ممكن اثاره تكون كبيرة علي, بل انها كانت صفعة على وجهي, من وين طلع لي هذا الرجل البسيط مع ظلام الفجر ليعطيني هذه النصيحة الثمينة في هذا الوقت, لابد ان وجوده هو ال (خيرة) اللي ممكن اتجنب من خلالها الكثير من الشر! ومن من؟ من شخص لا يملك اي شي الا اربع اطفال معاقين وديون اثقلت رقبته وباص يملكه بنكه! طاقته الايجابية العالي وصلتني قبل ان يوصل يوقف جنبي وكل اولوياته في الحياة هي اطعام اولادع ويشوفهم بصحة وسعداء! هذا الرجل اللي ماعرفت اسمه اعطاني اكبر نصيحة في حياتي بدون مايقول عنوان النصيحة واللي هي القناعة والرضا, طلعني من ستريس وكآبة علشان مو قادر القى قطعة بلاستيكية ثانوية اقدر استمر من دونها! هذا الشي ذكرني في سنة من السنين لما واحد من الربع طلب سيارة رنج روفر ولما وصلت اتضح ان مقاعد السيارة كانت مصنوعة من الجلد الأبيض عوضا عن الجلد الأحمر اللي طلبه! فدخل في حزن وكآبة شديدين لمدة أسابيع اختفى ولا عدت شفته حتى رجع وقال بعت السيارة بخسارة كبيرة! علشان لون المقعد, كم تافهين وسخيفين ممكن نكون مقارنة باللي ماعندهم اي شي ولا يملكون ما نملك ولكن يعرفون شلون يكونون سعيدين ويعرفون يتعاملون مع السعادة لهذا نعلمت أكبر درس في ذاك اليوم وهو: القناعة كنز لا يفنى